الطرقات إلى بيروت كثيرة. المدينة المختزنة في أحيائها وقاطنيها كذاكرة حيّة، تستحضر نفسها بنفسها عند كل حدث. ليست الأحداث وحدها ما يعكس تناقضاتها، إنما بنية هذا المكان المتراكمة على نحو تاريخي وعمرانيّ مأزوم، بدءاً من الخنادق والمتاريس التي صنعتها الحرب الأهليّة حينها، وانقسام بيروت إلى 'بيروتين'"، شرقيّة وغربيّة، وليس انتهاء بسوليدير"
كيف يفصل التفاوتُ بين 'بيروتين'"؟"
الطرقات إلى بيروت كثيرة. المدينة المختزنة في أحيائها وقاطنيها كذاكرة حيّة، تستحضر نفسها بنفسها عند كل حدث. ليست الأحداث وحدها ما يعكس تناقضاتها، إنما بنية هذا المكان المتراكمة على نحو تاريخي وعمرانيّ مأزوم، بدءاً من الخنادق والمتاريس التي صنعتها الحرب الأهليّة حينها، وانقسام بيروت إلى "بيروتين"، شرقيّة وغربيّة، وليس انتهاء بسوليدير، لأن الأخيرة لم تكن مشروعاً "تأهيلياً" ينتهي مع انتهاء بناء آخر حجر في المدينة، ولكنها أعادت تقسيمها مرة جديدة، لا طائفياً فحسب، بل طبقياً أيضاً.
سيظلّ أهالي الخندق الغميق والبسطة التحتا والباشورةيعيشون أمام "وحش" اسمه "بيروت الجديدة" أو "وسط البلد". مكان أُقحم وسط طبقات اجتماعية متوسطة وفقيرة، مقابل هياكل عمرانية رسّخت شرخاً كبيراً بينها وبين عمران المناطق المحاذية، انسحب على العجلة الاقتصادية، حيث المحال التي لا يقصدها سوى الأثرياء والبيوت الفخمة، الأمر الذي ولَّد طبقة غير متجانسة مع بيروت، وخلق هوةً كبيرة بينها وبين سائر الطبقات الاجتماعية في المدينة.
احتلّت الطبقات الغنيّة وسط العاصمة؛ المركز الأساس للشركات التجارية والإدارات الرسميّة، وتُركت الأطراف للطبقات الاجتماعية الأخرى، بخلاف التمدد الحاصل في أوروبا، إذ تقطن الطبقات الغنية في أطراف المدن، وتلجأ الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى الوسط، حيث أماكن عملها.
يعتبر بعض سكان بيروت أن أكثر من كرّس هذا المشهد هو "سوليدير"، بعدما عزلت طبقات اجتماعية بكاملها عن شوارعها وبحرها، ذلك أن لا قدرة شرائية لهم فيها، ولأنها لم تعد تشبههم أيضاً. هذا إن لم نتحدث عن مشاريع طارئة على المدينة، مثل مشروع "Landmark of Beirut" قرب ساحة رياض الصلح، ومشروع "Beirut Gate"، ناهيك بما يعرف بالـ"Souks"، وما إلى ذلك من مجمعات تبعثر عقد الذاكرة. صارت بيروت مدينة صامتة، لا تحكي ولا تتفاعل، بعد أن اختلّ التوازن البشري معها.
على الرغم من ذلك، لا تزال تجد وسط هذا التحول المديني بيروت القديمة في البسطة والظريف والصنائع. لا يزال هناك أهل يعتنون بها حتى لا تموت ذاكرتها. يسلّم عليك المارّون حتى لو لم يكونوا يعرفونك. ينهمكون في طلبك حتى تنفيذه. يجلسون قرب بعضهم بعضاً. يذكّر أحدهم الآخر بأسماء عائلات الحيّ وتحولات المنطقة بعد الحرب. متصالحون مع الحاضر الذي صنعوه بأنفسهم وبعرقهم، على الرغم من شدة العوز وقلة المال، لكن طاولة الورق وفنجان الشاي أو المتّة ونرجيلة العجمي تجهز دائماً في الوقت المناسب.
أبو رياض وسركيس ومحسن وأبو أدهم هم جيران الحيّ العتيق. يخففون من خلال "جمعتهم" ثقل يومهم والطقس الذي توحي وجوههم ببرودته. لا يتكلمون كثيراً، لكنهم يقضون ساعات النهار الأخيرة بجوار بعضهم بعضاً. يسلّون المارّين. يسرحون بالرصيف الذي لا يتغير شكله وتقطّعاته إلا في خيالاتهم. تُبنى قصص كثيرة عليه، ولكن لا يراها غيرهم.
يفعلون ذلك حتى ينقضي الوقت. يتحدث أبو رياض، وهو من سكان منطقة البسطة، عن التحولات التي طرأت على المدينة في العقد الأخير. الرجل الذي حفظ كل ركن فيها حين كان بائعاً متنقلاً للصحف والمجلات، يقول بغصة تبدو واضحة في صوته، إن بيروت التي خرجت إلى الإعلام في بداية الحراك الشعبي في تشرين الأول/أكتوبرالفائت كانت تنتفض على تاريخها.
"الشباب الذين كانوا يصرخون أمام الكاميرات ليسوا زعران، كما وصفهم البعض. الحرقة التي أبدوها هي نتيجة انفجار اجتماعي كبير يعاني منه كل الناس، وخصوصاً في العاصمة التي استولى أثرياؤها على ممتلكات آبائهم وأجدادهم"، يقول أبو رياض.
ويروي كيف استطاع الحراك أن يعرّي هوية بيروت الحقيقية التي شرذمتها الحرب، وبعدها كل الهويات الطارئة، من خلال بناء "صرح" بيروتي في البلد "لم يعمّره عرق البيروتيين القدامى، الذين بنوا مدينتهم بالشكل الذي يتماشى مع هويتها العمرانية وطبقاتها الاجتماعية المتساوية"، ويوضح أن هذه المدينة لم تشهد مثل هذا التفاوت الطبقي الهائل الذي غرّب أهلها الأصليين عنها وهجّرهم.
تقترب إلى شوارع الباشورة؛ المنطقة التي لا تزال بعض أبنيتها تحتفظ بطابعها التراثي، فيحدثك بعض أهلها كيف يتعمّدون حصر مساحتهم البيروتية في هذه المنطقة، من دون أن تمتد أرجلهم من شرفاتهم البسيطة إلى رخام وسط البلد.
نقترب من رجل ستّيني يجلس عند عتبة محلّه الصغير، ويبيع بعض قطع الأنتيكا التي ورث هواية جمعها من والده. يقول أسعد إنه يشفق على بعض "جيرانه" من قاطني "بيروت الجديدة"، لأنهم يملكون ثمن السكن، لكنهم طارئون على الذاكرة.
"من لا يعرف بيروت من بائعي الخضار والدكاكين وكبار السن الذين يستريحون على الأرصفة، فإنه لا يعرف شيئاً عنها. هؤلاء هم حكواتيون ورواة لتاريخ مدينتنا". يقول إن معظم قاطني أطراف وسط البلد يشعرون بالتهميش، فيما تُحشر مفاهيم التقسيم الطائفي بين أبناء المدينة، ولكنه في الحقيقة تقسيم طبقي بمسميات طائفية، وفق قوله.
يلحظ العابرون من مناطق بيروت المتوسطة والفقيرة إلى وسط البلد هذا التجاور البصري والتاريخي والبنيوي بين "البيروتين"؛ بين أحياء يتحدث أهلها عن التهميش والعوز والهوية والذاكرة، وأحياء باتت تساوي قيمة أراضيها أضعافما تساويه أحياء "الضواحي".
وبمرور سريع على جسر "الرينغ" أو الجهة الغربية للخندق، يبدو واضحاً أن المكان أصبح مطوّقاً بالمشاريع، من الـ"Digital District" حتى قطعة الأرض الهائلة من جهة "الرينغ" (شمالاً). خطوات كهذه في "مأسسة" المدينة تنمّ عن تغيير ديموغرافي ووظيفي متراكم، لتصبح هذه المناطق، وفق أصحاب المشاريع، امتداداً حيوياً آخر لـ"سوليدير".
Related Posts
This text is an example of a text that can be replaced in the same space. This text was generated from the Arabic text generator, where you can generate such text or many other texts in addition to increasing the number of characters generated by the application.